2025-05-21 نشرت في
شجرة الجاكرندا في تونس: ظل بنفسجي يُقاوم الغياب ويستحق الحماية
في قلب العاصمة التونسية، حيث تتقاطع الطرقات وتزدحم الأرصفة بالمارة، تنهض شجرة الجاكرندا بكل ما فيها من رهافة وجمال بصري، كأنها قصيدة مزهرة تُلقى على المدينة كل ربيع، بلون بنفسجي مائل لروح البنفسج، فتنثر سحرها في العيون وتُخفف عن الناس ثقل المدينة.

شجرة تُشبه الشعراء.. وتحمل ذاكرة المدينة
ليست الجاكرندا مجرّد شجرة وافدة من أمريكا الجنوبية، بل صارت مع الزمن أيقونة عمرانية وجمالية تُرافق الإنسان في لحظاته اليومية، شاهدة على الحنين، على القصص القاسية والجميلة، ومؤنسة للوحدة وسط الزحام.
دخلت الجاكرندا تونس في إطار عمليات التبادل النباتي بين المستعمرات أواخر القرن التاسع عشر، وجاءت بها فرنسا أثناء تخطيطها لحديقة البلفدير بين 1890 و1910. ومنذ ذلك الوقت، تماهت الشجرة البنفسجية مع الذاكرة المدينية، فزُرعت على أرصفة الأحياء الأوروبية الجديدة التي أنشأها الاستعمار مثل شارع باريس، شارع قرطاج، باب البحر، والعمران وغيرها.
الجاكرندا.. تيمة شعرية في الهندسة المدينية
حين شرع الإنسان في تنظيم المدينة كفضاء للعيش المشترك، لم ينسَ الطبيعة، بل نقل الغابة إلى الشارع، ودمج الأشجار في قلب المعمار. الجاكرندا كانت إحدى هذه الأشجار، تنمو بين الحجارة والاسفلت، وتخلق توازنًا جماليًا بين الحديد والظل، بين السرعة والسكينة.
ويبلغ ارتفاع الشجرة في نضجها حوالي 20 مترًا، وتنمو بسرعة، وتُظلل المكان بلطف في المناطق الحارة. لحاؤها المموج بين الرمادي والبني يُستخدم لصناعة أثاث فاخر، ويُعرف خشبها بـ"الأبنوس الأخضر".
ظلّ بنفسجي خفيف.. ونداء سحري سنوي
زهور الجاكرندا لا يتجاوز طول الواحدة منها 3 سنتيمترات، لكنها حين تتساقط، تُشعل المدينة بلونها البنفسجي في مشهد أقرب إلى الخيال. فيتحول المارة إلى مصورين، والعابرون إلى شعراء، ويجلس الناس تحت ظلها كأنهم يستظلون بقطعة من حلم.. وربما تسقط زهرة في جيب أحدهم فترافقه إلى بيته في هدوء.
هذه اللحظات التي تقدمها الشجرة كل ربيع ليست مجرد متعة بصرية، بل تجربة نفسية عميقة، تُدخل المدينة وأهلها في حالة من السكينة والانبهار الخفي.
الشجرة التي تُنسى.. وتُقاوم
رغم جمالها، تُعاني الجاكرندا التونسية من الإهمال: لا تُسقى، لا تُسمّد، ولا تُشذب كما ينبغي، ولا نجد أرشيفًا يروي قصص زرعها الأولى. والأسوأ، أنها تُقطع أحيانًا عمدًا من قبل أصحاب المحلات لتوسيع واجهاتهم التجارية. وتبدو بذلك كأنها تمشي نحو الغياب بهدوء، في ظل غياب واضح لأي رؤية لحمايتها أو إعادة غرسها.
دعوة للحفاظ على كنز بيئي وثقافي
الجاكرندا ليست فقط زينة أرصفة، بل هي كنز بيئي وثقافي وتاريخي. ولأنها أثّرت بشكل لا مرئي على نفسية الناس وساهمت في تحسين جودة العيش في المدينة، فإن الدولة التونسية مطالبة بحمايتها عبر بلدياتها ومصالحها الفلاحية، وتشجيع المبادرات المدنية لتثمين هذا الإرث الذي يقف صامتًا ويقول كل شيء.
في مدن كثيرة حول العالم، تحوّلت الجاكرندا إلى رمز جماعي، كما في بريتوريا بجنوب إفريقيا حيث تُلقّب بـ"مدينة الجاكرندا"، وكما في سيدني حيث يعتقد الطلبة أن زهرة منها تجلب النجاح في الامتحانات. أليس حريًا بنا أن نحفظ ظلّ البنفسج الذي نسير تحته كل ربيع؟ أن نزرع مزيدًا من الشجر ونكتب تاريخه؟ أن نحوله إلى جزء من سردية المدينة لا تُنسى؟
في انتظار أن تُزهِر مجددًا، تظل الجاكرندا التونسية، ككل الأشياء الجميلة، تقاوم النسيان بصمت ناعم وبنفسجٍ لا يبهت.
