2022-01-18 نشرت في

الفخفاخ يكتب : مناخ الأزمة يساهم في انتشار نزعات الغلو والتطرف

كتب إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة التونسي الأسبق مقالا على أعمدة صحيفة الشرق الأوسط تحدث فيه عن الوضعية الإقتصادية في تونس و العالم.



الفخفاخ يكتب : مناخ الأزمة يساهم في انتشار نزعات الغلو والتطرف


بدأ عام 2022 ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط، وبينها تونس، تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية أمنية بالجملة، بعضها هيكلي وبعضها الآخر ظرفي.

وزاد الوضع تعقيداً بسبب وباء «كورونا» وانعكاساته السلبية على مؤشرات التنمية ونسب النمو عالمياً وإقليمياً ووطنياً، فضلاً عن تضرر تونس من تعاقب سنوات الحرب وحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في جارتها الشرقية ليبيا وفي عدد من دول المنطقة.

وإذا سلمنا أن فشل منوال التنمية القديم تسبب منذ العام 2000 في سلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ثم في اندلاع الثورة التونسية والثورات العربية في 2011، فإن صنّاع القرار الجدد لم ينجحوا في تغيير هذا المنوال. فكانت الحصيلة اضطرابات وانهيار المنظومات الحاكمة الجديدة، على غرار ما حصل في تونس بعد احتجاجات 25 يوليو (تموز) الماضي وما تبعها من قرارات رئاسية.

واليوم يشهد العالم تطورات جيواستراتيجية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية وأمنية نوعية ستنعكس على فرص التنمية البشرية والاقتصادية والسياسية في تونس وفي كل دول المنطقة.

وفي ظل التنافس العالمي الجديد، ستكسب الرهان الدول والمؤسسات التي ستحسن توظيف ورقة التحكم في اقتصاد المعرفة والتقدم العلمي والتكنولوجي وتكنولوجيات الاتصالات ومسار الرقمنة. ورغم المضاعفات السلبية لوباء «كورونا» على الصعيدين المحلي والدولي، سوف تتحسن أوضاع الشعوب والدول التي ينجح صناع القرار فيها في مواكبة التقدم السريع في عالم الإنترنت، وفي تكريس الأساليب الجديدة لمحاربة البيروقراطية والفساد، عبر تعميم الرقمنة والتحديث والتكنولوجي والمعرفي.

في المقابل، سوف تتسع «الهوة الرقمية» بين بعض دول الجنوب ودول الشمال، وسنشهد مزيداً من التراجع لدور الدول والحكومات والمؤسسات التي لا تواكب المستجدات في عالم اقتصاد المعرفة والتحولات الرقمية الجديدة.


مخاطر جديدة في تونس


وفي تونس التي حققت إنجازات خلال العقد الماضي في مجال الإصلاحات السياسية والدستورية وسياسات التنمية البشرية، تسببت عوامل كثيرة من بينها غلطات حكومات منظومات ما بعد انتخابات 2011 و2014 و2019 في بروز مخاطر جديدة.

هذه المخاطر تهدد العقد السياسي الاجتماعي الذي حصل عليه توافق كبير مطلع 2014 أي الدستور، كما تهدد التوازنات المجتمعية والاقتصادية والوحدة الوطنية.

صحيح أن الدستور وقعت صياغته بعد عامين كاملين من المشاورات والعمل المضني للمجلس الوطني التأسيسي المنتخب، وحصل وقتها ما يشبه الإجماع حول دعمه للحريات وللتعددية والديمقراطية وللسلطتين القضائية والجهوية، لكن بعض فصول هذا الدستور، التي تهم طبيعة النظام السياسي وتوزيع السلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية والحكومة والسلطة التشريعية، في حاجة إلى مراجعة وتعديلات. ولا يخفى أن تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهيكلية منذ عقود، يوشك أن يتسبب في تراجع الإحساس بالانتماء للوطن الموحد مقابل بروز الولاءات الفئوية والقطاعية والجهوية.

وتؤكد كل المؤشرات عالمياً أن مناخ الأزمة يساهم في انتشار نزعات الغلو والتطرف والانحياز لليمين المتطرف وللمواقف الشعبوية والعنصرية بمختلف ألوانها ومرجعياتها.

وأعتقد أن الدول العربية عموماً، وتونس تحديداً، ليست بمنأى عن هذه المخاطر رغم انفتاح مجتمعها ونخبها ورصيد البلاد في عالم التنمية البشرية والسياسية وتجاربها التعددية المتعاقبة.


الشراكة مع دول الخليج المتقدمة


في هذا السياق العام، كيف يمكن لتونس والدول المغاربة أن توظف إيجاباً علاقاتها مع الدول المتقدمة في المشرق العربي، وتحديداً مع دول الخليج التي حققت في الأعوام الماضية تقدماً اقتصادياً كبيراً وانفتاحاً ثقافياً؟

أعتقد أن ذلك ضروري وممكن، خاصة مع الدول الخليجية الشقيقة النفطية التي نجحت في تنويع اقتصاداتها واستثماراتها محلياً وعربياً ودولياً ودخلت «مرحلة ما بعد النفط».

كما سيكون مفيداً لتونس ودول المغرب العربي تطوير علاقاتها مع دول الخليج العربية، التي برهنت على تقدمها السريع والناجع في مجال الرقمنة والتحكم في التكنولوجيات الحديثة والرهان على تقدم الإنسان والموارد البشرية والانفتاح الثقافي.

ولا شك أن بين أولويات المرحلة المقبلة، بالنسبة لتونس ودول جنوب المتوسط العربية، تشبيك علاقاتها الثنائية والإقليمية مع دول الخليج النفطية التي يمكن أن ترفع مستوى استثماراتها وشراكتها معها خدمة لمصالح كل الأطراف، وتكريسا لقاعدة تقاطع المصالح.
مع دول جنوب أوروبا


وماذا عن تطور العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي عموماً ودول جنوب غربي أوروبا خصوصاً، باعتبارها الشريك الاقتصادي الخارجي الأول لتونس والدول المغاربية منذ عشرات السنين؟

أعتقد أن ترفيع مستوى الشراكة والمبادلات مع دول الخليج العربية لا يتنافى مع تحسين العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع بلدان أوروبا الجنوبية، التي كانت ولا تزال أهم شريك تجاري وفي قطاعات السياحة ومن حيث عدد المهاجرين.

لقد انطلق مشروع برشلونة الأوروبي - المتوسطي طموحاً في 1995 ثم في القمة الأورو - متوسطية الأولى في 2005، وكان الهدف تحرير تنقل المسافرين ورؤوس الأموال والسلع في الاتجاهين. وقُطعت أشواط إيجابية بالجملة رغم الانتكاسات. وساهم الاتحاد الأوروبي بصفة جماعية وبعض دوله بصفة ثنائية، في تأهيل اقتصاد تونس وبنيتها الأساسية، وفي قطع خطوات جديدة في سياق «سياسة الجوار الأوروبية» ثم وضعية «الشريك المميز».

لكن عوامل كثيرة، بينها وباء «كورونا» الذي تسبب في صعوبات مالية في عدة دول أوروبية، أدت إلى انشغال كل دول العالم، وبينها دور أوروبا الغربية، بمشاكلها المالية والاجتماعية والصحية الداخلية على حساب تعهداتها لشركائها في دول جنوب المتوسط، وبينها تونس، بما في ذلك فيما يتعلق بدعم الانتقال الديمقراطي، وتنظيم الهجرة القانونية، والقضاء على الأسباب العميقة للهجرة غير القانونية.

لكن لا بد أن تدرك دول أوروبا اليوم أن مستقبل استقرارها وأمنها وتوازنها الديموغرافي والاجتماعي رهين شراكة مع دول جنوب المتوسط، واعتماد شراكة تنموية وشاملة وتنظيم تنقل المسافرين والمهاجرين في الاتجاهين من دون اختزال التدخلات والمساعدات في «الحلول الأمنية والعسكرية».

إن معدل الدخل الفردي في دول شمال البحر الأبيض المتوسط يقدر بعشرة أضعاف دخل المواطن في دول جنوب المتوسط. إذن، فالهوة تزداد عمقاً في وقت تعثر فيه الانتقال الديمقراطي وتزايدت فيه نسب الفقر والبطالة ومؤشرات الاضطراب الأمني.


ملفات الهجرة والمهاجرين


لذلك، فمهما كانت التعطيلات لحرية التنقل والعقوبات، التي ستفرض على المهاجرين غير القانونيين، سيفرض ملف الهجرة نفسه مجددا بسبب الاختلال الديموغرافي والاقتصادي بظروف العيش، والأوضاع السياسية في ضفتي البحر الأبيض المتوسط.

حالياً يقدر عدد السكان في البلدان المتوسطية العشرة بمائتي مليون ساكن شمالاً ومثلهم جنوباً، لكن من المتوقع أن يتراجع النمو الديموغرافي في بلدان جنوب أوروبا ويتسبب في نقص بـ30 مليون ساكن، مقابل تزايد بعشرات ملايين السكان في دول جنوب المتوسط قبل عام 2050.

إذن، فمن مصلحة الجميع البدء منذ الآن في شراكة ناجعة في قطاعات التدريب والتربية والتعليم والإنتاج والخدمات، واعتماد سياسات مشتركة تجنب دول الجنوب هجرة مزيد من الأدمغة، وتضمن للدول الأوروبية حاجياتها القادمة من الخبرات والعمال في مختلف القطاعات.

مؤشرات عام 2022 توحي بكون التحديات خطيرة والغموض كبير، لكن تطوير الشراكات البينية والإقليمية يمكن أن يساهم في محاصرة الأزمات... كل الأزمات.


في نفس السياق